مسرحية "سر الأنحوتة" اخراج معاذ الرفاعي
الهروب من ضوضاء الخارج يصنع عوالم أجمل
رضا الزعيبي
يمتزج الخيال بالحقيقة، تتصارع الحكمة والجنون، في فضاء درامي مغلق تدور احداث المسرحية، بين نحات عاشق لمهنته وفنه ومنحوتات تبعث فيها الروح تدور القصة في عالم عجائبي يشبه الواقع أحيانا، فالمنحوتات الحجرية ستنقد الإنسانية وتبوح بأحلامها ومن خلال عملية الحكي يكتشف المتفرج هشاشة البشرية امام أحلام الحجارة، هكذا تكون الرحلة في "سر الانحوتة" اخراج معاذ الرفاعي.
المسرحية تمثل المملكة العربية السعودية في الدورة السادسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، أداء معتز العبد الله وأسامة الحسن وزكي النونو ورزان وبندر الغانمي، ويوسف رضوان، تصميم أزياء وكوريغرافيا معاذ الرفاعي ومؤلف موسيقى أمجد العبد الله، وديكور لنهى مصطفى ونزار البصري وماكياج ومؤثرات ابرار الذبياني وإدارة خشبة كل من نسرين فرناندز ومحمد الافندي وعلي المباح ووسام الحسن، العمل من انتاج فرقة دار شارميسيو للفنون الادائية.
تصدح الموسيقى عاليا معلنة عن بداية الرحلة، تنسجم الأجساد الثلاثة في حركة واحدة متناصة وكأنهم شخص واحد، يرتفع صوت الكمان تدريجيا ليصبح سيد الموقف قبل ان تعود الشخصيات الى مكانها وتجلس في وضعية الجمود وتشتعل الأضواء لتبرز ملامحها وملامح الشخص الرابع الواقف وسط الخشبة متحدثا عن أحلامه ومواصفات عمل فني جديد سينجزه، من الحوار نفهم انّ الشخصيات الثلاثة هي منحوتات صنعها ذاك الحالم بعوالم افضل.
يبدعون في الحركة، تناسق بين اللون والضوء وأداء الممثل، ثلاث شخصيات تتحرك في فضاء ضيق، هم منحوتات نحتهم يد فنان عاشق لفنه شغوف ببعث الروح في الحجارة، هم صنيعته، أبنائه من روحه ومن يديه تنفلت الياذة للحياة، منحوتات تبدو جامدة للوهلة الأولى ولكن فجأة تبعث فيها الروح، فيتحادثون عن واقعهم عن ألوان غير موجودة عن حكايات لم يعيشوها ورحلة يرغبون بخوضها، المنحوتات في النهاية هم النحن، هم البشر في كل اصقاع البسيطة، بشر افتقدوا الى حكمة اتخاذ القرار وتركوا مصائرهم لشخص يقودهم.
"سر الانحوتة" عنوان المسرحية، عمل قام على سينوغرافيا مذهلة، الإضاءة رغم عتمتها الا انها موشاة بتفاصيل والوان عديدة، رحلة مميزة مع الضوء والموسيقى صنعها مخرج العمل وقدمها لجمهور قاعة المونديال، عوالم السينوغرافيا تأثر مباشرة في المتلقي، تحفز خياله وتجعله يبحث عن تفاصيل الجمال في الفضاء المسرحي، الديكور بسيط فقط ثلاث كراس مربعة الشكل تجلس فوقها المنحوتات وتتحرك حسب الحدث.
المكان في المسرحية ثابت، معمل النحات أين يمارس هوايته ويعطي من روحه للحجارة، ثلاث منحوتات مكتملة والرابعة لازالت في طور الإنجاز، يتشاركون المكان وضيقه واحلامهم على الخارج الذي لا يعرفونه، احداهم تحلم ان تباع وتعرض في متحف عالمي، الأخرى تريد الاختلاط بالبشر واكتشاف الاختلاف والمنحوتة الثالثة صنعت وكأنها الة تتحوّل أحيانا بإحداثيات متجددة، هذا المكان الثابت عبّر عنه بإضاءة خافتة اقصى الركح وأكثر قوة في مركز الحكاية.
تجانس في الحركة، تناص بين المنطوق والأداء الجسدي، على الخشبة تحررت أجساد الممثلين ولاعبت سحر الحياة المنبعث في المكان، أداء الممثلين وتلقائيتهم اضفى جمالية على المسرحية، النص المنطوق باللغة العربية الفصحى مع إضافات أحيانا باللهجة التونسية والمصرية والخليجية، لإضفاء مساحة من الود مع المتلقي، الممثلين متمكنين جدا من شخصياتهم، لهم قدرة على الانتقال من حالة الى أخرى، كما انّ تجسيد دور "منحوتة" أي صفر حركة وصفر كلمة امر متعب جدا للممثلين ولكنهم كسبوا الرهان.
يصنع عوالم مبهرة، ينحت بشغف تماثيل تشبه أفكاره وروحه، كل منحوتة لها قصة وسحرها وعلاقة وثقى بباعث الحياة فيها، النحات على الخشبة يشبه الخالق فهو يبدع في رسم التفاصيل ثم ينفخ فيها من روحه، فنان متألم من ضوضاء الخارج، متألم من الوحشية وانتشار السواد عوض الألوان فهرب الى منحته او معمله كما يسميه انهمك يصنع تماثيله ويحادثها وكأنها تستجيب، يعود اليها مثقلا بالم الحياة.
المسرحية تقوم على لغة الجسد كثيرا، فالجسد له حركاته وتعبيراته القادرة على تجاوز كل حروف اللغة، المسرحية تبرز مدى هشاشة البشر وتوحش العالم الخارجي، نقد لتراجع قيم الإنسانية ما جعل النحات ينزوي بذاته وبحجارته يحولها اعمال فنية يحتفظ بها لنفسه، هو لم ينحت من فراغ بل نحت "اناه" وحمّله بالكثير من الكبرياء، ونحت "حياة" حبيبة الروح ونحت "صديق" الصديق الوحيد، هم ثلاثة فشلوا في مقاومة غواية الحياة، تفرّقوا فخلّهم بإزميله على الحجارة وصنع لهم عالم يجمعهم لا زيف فيه ولا خديعة.